فصل: فَصْلٌ: أَسْبَابُ الْمَحَبَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [رُسُومٌ وَحُدُودٌ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ]:

فِي ذِكْرِ رُسُومٍ وَحُدُودٍ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَسَبِ آثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا. وَالْكَلَامِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا.
الْأَوَّلُ، قِيلَ: الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ الدَّائِمُ، بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ.
وَهَذَا الْحَدُّ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ، وَالصَّحِيحَةِ وَالْمَعْلُولَةِ.
الثَّانِي: إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ، عَلَى جَمِيعِ الْمَصْحُوبِ.
وَهَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا.
الثَّالِثُ: مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ، فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ.
وَهَذَا أَيْضًا مُوجِبُهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْحَدَّيْنِ قَبْلَهُ. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَحَبَّةَ الصَّادِقَةَ الصَّحِيحَةَ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْمَيْلِ وَالْإِيثَارِ بِالْإِرَادَةِ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَصْحَبْهُ مُوَافَقَةٌ فَمَحَبَّتُهُ مَعْلُولَةٌ.
الرَّابِعُ: مَحْوُ الْحُبِّ لِصِفَاتِهِ. وَإِثْبَاتُ الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ.
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ: أَنْ تَنْمَحِيَ صِفَاتُ الْمُحِبِّ، وَتَفْنَى فِي صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ وَذَاتِهِ. وَهَذَا يَسْتَدْعِي بَيَانًا أَتَمَّ مِنْ هَذَا، لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ أَفْنَاهُ وَارِدُ الْمَحَبَّةِ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ.
الْخَامِسُ: مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ.
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا. وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ.
السَّادِسُ: خَوْفُ تَرْكِ الْحُرْمَةِ، مَعَ إِقَامَةِ الْخِدْمَةِ.
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَشَوَاهِدِهَا وَآثَارِهَا: أَنْ يَقُومَ بِالْخِدْمَةِ كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ خَوْفِهِ مِنْ تَرْكِ الْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ.
السَّابِعُ: اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ نَفْسِكَ، وَاسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ حَبِيبِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ لَوْ بَذَلَ لِمَحْبُوبِهِ جَمِيعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَاسْتَقَلَّهُ وَاسْتَحْيَى مِنْهُ، وَلَوْ نَالَهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ أَيْسَرُ شَيْءٍ لَاسْتَكْثَرَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ.
الثَّامِنُ: اسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ جِنَايَتِكَ، وَاسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ طَاعَتِكَ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا مِنَ الْمُحِبِّ.
التَّاسِعُ: مُعَانَقَةُ الطَّاعَةِ، وَمُبَايَنَةُ الْمُخَالَفَةِ.
وَهُوَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهُوَ أَيْضًا حُكْمُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا.
الْعَاشِرُ: دُخُولُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صِفَاتِ الْمُحِبِّ. وَهُوَ لِلْجُنَيْدِ.
وَفِيهِ غُمُوضٌ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ حَتَّى لَا يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَكُونَ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِهَا. فَيَصِيرُ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ بَدَلًا مِنْ شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنًى أَشْرَفَ مِنْ هَذَا: تُبَدَّلُ صِفَاتُ الْمُحِبِّ الذَّمِيمَةُ- الَّتِي لَا تُوَافِقُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ- بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي تُوَافِقُ صِفَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ تَهَبَ كُلَّكَ لِمَنْ أَحْبَبْتَ. فَلَا يَبْقَى لَكَ مِنْكَ شَيْءٌ.
وَهُوَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ وَأَحْكَامِهَا. وَالْمُرَادُ: أَنْ تَهَبَ إِرَادَتَكَ وَعَزْمَكَ وَأَفْعَالَكَ وَنَفْسَكَ وَمَالَكَ وَوَقْتَكَ لِمَنْ تُحِبُّهُ وَتَجْعَلَهَا حَبْسًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَلَا تَأْخُذُ لِنَفْسِكَ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاكَ. فَتَأْخُذُهُ مِنْهُ لَهُ.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ تَمْحُوَ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ، وَكَمَالُ الْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ مَا دَامَتْ فِي الْقَلْبِ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِهِ وَمَسْكَنٌ لِغَيْرِهِ فَالْمَحَبَّةُ مَدْخُولَةٌ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: إِقَامَةُ الْعِتَابَ عَلَى الدَّوَامِ. وَهُوَ لِابْنِ عَطَاءٍ. وَفِيهِ غُمُوضٌ.
وَمُرَادُهُ: أَنْ لَا تَزَالَ عَاتِبًا عَلَى نَفْسِكَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ. وَأَنْ لَا تَرْضَى لَهُ فِيهَا عَمَلًا وَلَا حَالًا.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ تَغَارَ عَلَى الْمَحْبُوبِ: أَنْ يُحِبَّهُ مِثْلُكَ. وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ أَيْضًا.
وَفِيهِ كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الْغَيْرَةِ، وَمُرَادُهُ: احْتِقَارُكَ لِنَفْسِكَ وَاسْتِصْغَارُهَا: أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ مُحِبِّيهِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: إِرَادَةٌ غُرِسَتْ أَغْصَانُهَا فِي الْقَلْبِ. فَأَثْمَرَتِ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ.
السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَنْسَى الْمُحِبُّ حَظَّهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَيَنْسَى حَوَائِجَهُ إِلَيْهِ. وَهُوَ لِأَبِي يَعْقُوبَ السُّوسِيِّ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ اسْتِيلَاءَ سُلْطَانِهَا عَلَى قَلْبِهِ غَيَّبَهُ عَنْ حُظُوظِهِ وَعَنْ حَوَائِجِهِ. وَانْدَرَجَتْ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْمَحَبَّةِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: مُجَانَبَةُ السُّلُوِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ لِلنَّصْرَابَاذِيِّ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ لَوَازِمِهَا وَثَمَرَاتِهَا، كَمَا قِيلَ:
مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفَهُ ** فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ

الثَّامِنَ عَشَرَ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِخَالِصِ الْإِرَادَةِ وَصِدْقِ الطَّلَبِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: سُقُوطُ كُلِّ مَحَبَّةٍ مِنَ الْقَلْبِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْحَبِيبِ. وَهُوَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ. وَمُرَادُهُ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِالْمَحَبَّةِ.
الْعِشْرُونَ: غَضُّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ غَيْرَةً. وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهَرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ غَضَّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَنِ الْمَحْبُوبِ- مَعَ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ- كَالْمُسْتَحِيلِ. وَلَكِنْ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْهَيْبَةِ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا. وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْهَيْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ أَيْ يُعْمِي عَمَّا سِوَاهُ غَيْرَةً، وَعَنْهُ هَيْبَةً.
وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ حُبَّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ تَأَمُّلِ قَبَائِحِهِ وَمُسَاوِيهِ. فَلَا تَرَاهَا وَلَا تَسْمَعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّبِّ. وَلَا يُقَالُ فِي حُبِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حُبُّكَ الشَّيْءَ. وَلَا يُوصَفُ صَاحِبُهَا بِالْعَمَى وَالصَّمَّ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَعْمَى وَيَصِمُّ عَنْهُ بِالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَكِنْ لَا تُوصَفُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَلَيْسَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ. بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ سِوَاهُمْ هُمُ الْبُكْمُ الْعُمْيُ الصُّمُّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَيْلُكَ لِلشَّيْءِ بِكُلِّيَّتِكَ. ثُمَّ إِيثَارُكَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَرُوحِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ مُوَافَقَتُكَ لَهُ سِرًّا وَجَهْرًا. ثُمَّ عِلْمُكَ بِتَقْصِيرِكَ فِي حُبِّهِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ فِي الْقَلْبِ، تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: لُمْتُ بَعْضَ الْإِبَاحِيَّةِ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَبْغَضَ مِنْهُ؟
قَالَ الشَّيْخُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا وَأَقْوَامًا وَعَادَاهُمْ فَطَرَدَهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ: تَكُونُ مُوَالِيًا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ مُعَادِيًا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَافْتُضِحَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ مُشَارًا إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ: وَقَائِلُهُ إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهَا تُحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَا الْمُرَادَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. لَكِنْ لِقِلَّةِ حَظِّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ: وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَحْبُوبِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُقُوقِهَا وَثَمَرَاتِهَا. وَمُوجِبَاتِهَا.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: سُكْرٌ لَا يَصْحُو صَاحِبُهُ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ. ثُمَّ السُّكْرُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا يُوصَفُ، وَأَنْشَدَ:
فَأَسْكَرَ الْقَوْمَ دَوْرُ الْكَأْسِ بَيْنَهُمْ ** لَكِنَّ سُكْرِي نَشَا مِنْ رُؤْيَةِ السَّاقِي

وَيَنْبَغِي صَوْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْحَبِيبِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يُعْذَرَ بِصِدْقِهِ وَغَلَبَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَقَهْرِهِ لَهُ. فَمَحَبَّةُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ لَهَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُجْعَلَ عُرْضَةً لِلْأَفْوَاهِ الْمُتَلَوِّثَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَكِنَّ الصَّادِقَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَلَى الْمَحْبُوبِ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى أُمُورَكَ غَيْرُهُ.
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ الْمَحْبُوبِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْحُرِّيَّةُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَا سِوَاهُ.
السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ، وَلَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ عَلَى الدَّوَامِ.
قُلْتُ: أَمَّا سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ: فَهُوَ الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَمَّا لَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مَنْ ذِكْرِهِ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ. وَلَا تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَهُوَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، بَلِ الْإِرَادَةُ وَالطَّلَبُ وَالشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ، فَلَا يُنْقِصُ ذَلِكَ جَفَاؤُهُ. وَلَا يَزِيدُهُ بِرُّهُ.
وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ الذَّاتِيَّةَ تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَلَا تُنْقِصُهَا زِيَادَتُهَا بِالْبِرِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَ يَحْيَى: أَنَّ الْقَلْبَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْمَحَبَّةِ الذَّاتِيَّةِ. فَإِذَا جَاءَ الْبِرُّ مِنْ مَحْبُوبِهِ. لَمْ يَجِدْ فِي الْقَلْبِ مَكَانًا خَالِيًا مِنْ حُبِّهِ يَشْغَلُهُ مَحَبَّةُ الْبِرِّ. بَلْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ بِلَا سَبَبٍ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُزِيلُ الْوَهْمَ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ وَالْبِرُّ قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ. وَلَا نِهَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَلَا بِرِّهِ. فَلَا نِهَايَةَ لِمَحَبَّتِهِ، بَلْ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَحَبَّةُ الْخَلْقِ كُلِّهُمْ وَكَانَتْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: كَانَ ذَلِكَ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِشْقًا- كَمَا سَيَأْتِي- لِأَنَّهُ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِلُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّكَ بِالْمَحْبُوبِ مَشْغُولًا، وَذَلِكَ لَهُ مَبْذُولًا.
الثَّلَاثُونَ: وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ مَا قِيلَ فِي الْمَحَبَّةِ فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ- أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى- أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا. وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا. فَقَالُوا: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَتْ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ. وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ. وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ. فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ. وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ. وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ. فَهُوَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ.
فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ. جَزَاكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ.

.فَصْلٌ: أَسْبَابُ الْمَحَبَّةِ:

فِي الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمُوجِبَةِ لَهَا وَهِيَ عَشَرَةٌ:
أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ. لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
الثَّانِي: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. فَإِنَّهَا تُوَصِّلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ.
الثَّالِثُ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ. فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ، وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى.
الْخَامِسُ: مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا. وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِيهَا. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ: أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفِرْعَوْنِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ.
السَّادِسُ: مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ.
السَّابِعُ: وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِهَا، انْكِسَارُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ.
الثَّامِنُ: الْخَلْوَةُ بِهِ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، لِمُنَاجَاتِهِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِهِ، وَالْوُقُوفِ بِالْقَلْبِ وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ خَتْمِ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.
التَّاسِعُ: مُجَالَسَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ، وَالْتِقَاطُ أَطَايِبِ ثَمَرَاتِ كَلَامِهِمْ كَمَا يَنْتَقِي أَطَايِبَ الثَّمَرِ. وَلَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا إِذَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَةُ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَزِيدًا لِحَالِكَ، وَمَنْفَعَةً لِغَيْرِكَ.
الْعَاشِرُ: مُبَاعَدَةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشْرَةِ: وَصَلَ الْمُحِبُّونَ إِلَى مَنَازِلِ الْمَحَبَّةِ. وَدَخَلُوا عَلَى الْحَبِيبِ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَمْرَانِ: اسْتِعْدَادُ الرُّوحِ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَانْفِتَاحُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.فَصْلٌ: [مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ]:

وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مُعَلَّقٌ بِطَرَفَيْنِ: طَرَفُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ. وَطَرَفُ مَحَبَّةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. وَالنَّاسُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَأَهْلٌ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى إِثْبَاتِ الطَّرَفَيْنِ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ تُقَدَّرُ. وَلَا نِسْبَةَ لِسَائِرِ الْمَحَابِّ إِلَيْهَا. وَهِيَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا. فَإِنَّهُ لِمَا أَحَبَّهُمْ كَانَ نَصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ أَتَمَّ نَصِيبٍ.
وَالْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ وَمَا قَالُوهُ عَنِ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ عَكْسُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ. وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ تَكْذِيبُ النُّصُوصِ. فَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَالِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِيَنَالُوا بِهَا الثَّوَابَ. وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ بِهَا لَفْظَ الْمَحَبَّةِ فَلِمَا يَنَالُونَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالثَّوَابُ الْمُنْفَصِلُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ حُبَّ الْوَسَائِلِ.
وَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. وَإِعْطَائِهِمُ الثَّوَابَ. وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ وَمَدْحِهِ لَهُمْ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ. فَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِالْمَفْعُولِ الْمُنْفَصِلِ. وَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِنَفْسِ الْإِرَادَةِ.
وَيَقُولُونَ: الْإِرَادَةُ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِتَخْصِيصِ الْعَبْدِ بِالْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ: سُمِّيَتْ مَحَبَّةً، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ: سُمِّيَتْ غَضَبًا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعُمُومِ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ الْخَاصِّ: سُمِّيَتْ بِرًّا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِإِيصَالِهِ فِي خَفَاءٍ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَلَا يَحْتَسِبُ: سُمِّيَتْ لُطْفًا وَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهَا.
وَمَنْ جَعَلَ مَحَبَّتَهُ لِلْعَبْدِ ثَنَاءَهُ عَلَيْهِ وَمَدْحَهُ لَهُ: رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْكَلَامِ. فَهِيَ عِنْدُهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، لَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالْفِعْلُ عِنْدَهُ نَفْسُ الْمَفْعُولِ. فَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِ الرَّبِّ مَحَبَّةٌ لِعَبْدِهِ، وَلَا لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَمَنْ رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ جَعَلَهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْإِرَادَةِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا.
وَلِمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِرَادَةٌ، مَنْ رَأَى ذَلِكَ قَالَ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثِ الْمَقْدُورِ، وَالْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُرَادَ: أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ الْعِبَادِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ لَهُ. وَقَالُوا: لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِ. فَأَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْإِلَهِيَّةِ، وَخَاصَّةَ الْعُبُودِيَّةِ. وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ. فَعِنْدَهُمْ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ إِلَّا بِجَحْدِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَجَحْدِ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَجَمِيعُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ- عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً، وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا، وَذْوَقًا وَوَجْدًا- تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَالرَّبِّ لِعَبْدِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا لِذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ طَرِيقٍ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَذَكَرْنَا فِيهِ فَوَائِدَ الْمَحَبَّةِ، وَمَا تُثْمِرُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَأَسْبَابَهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا. وَبَيَانَ فَسَادِ قَوْلِهِ، وَأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْغَايَةَ الَّتِي وُجِدُوا لِأَجْلِهَا. فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ: إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَلِأَجْلِهَا. وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَهِيَ سِرُّ التَّأْلِيهِ. وَتَوْحِيدُهَا: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُنْكِرُونَ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَبِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ، بَلْ كَانُوا يُؤَلِّهُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَصَاحِبُهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى: فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، فَهَذَا نِدٌّ فِي الْمَحَبَّةِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا النِّدَّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، بِخِلَافِ نِدِّ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا فِي الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ. ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَفِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُحِبُّونَهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْدَادِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ خَالِصَةٌ، وَمَحَبَّةَ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ قَدْ ذَهَبَتْ أَنْدَادُهُمْ بِقِسْطٍ مِنْهَا. وَالْمَحَبَّةُ الْخَالِصَةُ: أَشَدُّ مِنَ الْمُشْتَرَكَةِ. وَالْقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فَإِنَّ فِيهَا قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ. فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ. وَلَكِنَّهَا مَحَبَّةٌ يُشْرِكُونَ فِيهَا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَمَا يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ مَحَبَّةِ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ.
وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا ذُمُّوا بِأَنْ أَشْرَكُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْدَادِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ. وَلَمْ يُخْلِصُوهَا لِلَّهِ كَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ.
وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ. وَهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ لِآلِهَتِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَهِيَ مُحْضَرَةٌ مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَوُّوهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ..
وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعَدْلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَيْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَقِيلَ: الْبَاءُ. بِمَعْنَى عَنْ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ. إِذْ لَا تَقُولُ الْعَرَبُ عَدَلْتُ بِكَذَا، أَيْ عَدَلْتُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي فِعْلِ السُّؤَالِ. نَحْوَ: سَأَلْتُ بِكَذَا. أَيْ عَنْهُ. كَأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ: اعْتَنَيْتُ بِهِ وَاهْتَمَمْتُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَهِيَ تُسَمَّى آيَةُ الْمَحَبَّةِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: لَمَّا ادَّعَتِ الْقُلُوبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ: أَنْزَلَ اللَّهُ لَهَا مِحْنَةً {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمِحْنَةِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
وَقَالَ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْمَحَبَّةِ وَثَمَرَتِهَا، وَفَائِدَتِهَا. فَدَلِيلُهَا وَعَلَامَتُهَا: اتِّبَاعُ الرَّسُولِ. وَفَائِدَتُهَا وَثَمَرَتُهَا: مَحَبَّةُ الْمُرْسَلِ لَكُمْ. فَمَا لَمْ تَحْصُلِ الْمُتَابَعَةُ. فَلَيْسَتْ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ حَاصِلَةً. وَمَحَبَّتُهُ لَكُمْ مُنْتَفِيَةً.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ أَرْبَعَ عَلَامَاتٍ لِلَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَرِقَّاءُ، رُحَمَاءُ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ. عَاطِفُونَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا ضَمَّنَ أَذِلَّةً هَذَا الْمَعْنَى عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى. قَالَ عَطَاءٌ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّفْسِ وَالْيَدِ، وَاللِّسَانِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ.
الْعَلَامَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْمَحَبَّةِ فَكُلُّ مُحِبٍّ يَأْخُذُهُ اللَّوْمُ عَنْ مَحْبُوبِهِ فَلَيْسَ بِمُحِبٍّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. كَمَا قِيلَ:
لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ ** يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ اللُّوَمُ

وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}- إِلَى قوله: {مَحْذُورًا} فَذِكْرُ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ: الْحُبُّ. وَهُوَ ابْتِغَاءُ الْقُرْبِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَسِيلَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَخَوْفِ الْعَذَابِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا: أَنَّكَ لَا تَتَنَافَسُ إِلَّا فِي قُرْبِ مَنْ تُحِبُّ قُرْبَهُ، وَحُبُّ قُرْبِهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِهِ. بَلْ مَحَبَّةُ ذَاتِهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ: مَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا تَقْرَبُ ذَاتُهُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا يَقْرَبُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ. وَلَا يُحَبُّ.
فَأَنْكَرُوا حَيَاةَ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمَ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةَ النُّفُوسِ، وَقُرَّةَ الْعُيُونِ، وَأَعْلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ، وَضُرِبَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ اللَّهِ حُجُبٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ. وَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا عِنْدَ تَعْطِيلِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَذِكْرُهُمْ أَعْظَمُ آثَامِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ.
بَلْ يُعَاقِبُونَ مَنْ يَذْكُرُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ. وَيَرْمُونَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ الَّتِي هُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، وَحَسْبُ ذِي الْبَصِيرَةِ وَحَيَاةِ الْقَلْبِ: مَا يَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْمَقْتِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال أَحْبَابُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} فَجَعَلَ غَايَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُحِبِّينَ: إِرَادَةَ وَجْهِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} فَجَعَلَ إِرَادَتَهُ غَيْرَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِوَجْهِهِ مُوجِبَةٌ لِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ: أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ. وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ. وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ. وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى ثُبُوتِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، فَضْلًا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ لَذَّةٌ. كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ دَاعِيًا يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: وَيْحَكَ! هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا، أَفَتَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ؟
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَذَكَرَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ. فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي. وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ.
وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ. اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ.
وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.
وَكَمْ فِي السُّنَّةِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا كَقَوْلِهِ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَ«أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَ«أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ: مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ».
وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ. وَفَرَحُهُ الْعَظِيمُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَرَحٍ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ. وَهُوَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلتَّوْبَةِ وَلِلتَّائِبِ.
فَلَوْ بَطَلَتْ مَسْأَلَةُ الْمَحَبَّةِ لَبَطَلَتْ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلَتَعَطَّلَتْ مَنَازِلُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ.
فَإِنَّهَا رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ وَمَنْزِلَةٍ وَعَمَلٍ. فَإِذَا خَلَا مِنْهَا فَهُوَ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَعْمَالِ كَنِسْبَةِ الْإِخْلَاصِ إِلَيْهَا. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، بَلْ هِيَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ. فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ. بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ. وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ. أَيْ تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.
وَأَصْلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ. وَالتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ. يُقَالُ: عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ.
فَـ الْمَحَبَّةُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَلْ تُمْكِنُ الْإِنَابَةُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ!! وَهَلِ الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا صَبْرَ الْمُحِبِّينَ!! فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَكَّلُ عَلَى الْمَحْبُوبِ فِي حُصُولِ مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ.
وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي مَحَبَّةِ مَا سِوَى مَحْبُوبِهِمْ لِمَحَبَّتِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحَيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ عَنْ مَحَبَّةٍ: فَذَلِكَ خَوْفٌ مَحْضٌ.
وَكَذَلِكَ مَقَامُ الْفَقْرِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقْرُ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَحْبُوبِهَا. وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَقْرِ. فَإِنَّهُ لَا فَقْرَ أَتَمُّ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ. لَا سِيَّمَا إِذَا وَحَّدَهُ فِي الْحُبِّ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ عِوَضًا سِوَاهُ. هَذَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ.
وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ. وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَائِهِ. فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا. كَمَا سَيَأْتِي.
فَمُنْكِرُ الْمَحَبَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُعَطِّلُهَا مِنَ الْقُلُوبِ: مُعَطِّلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَحِجَابُهُ أَكْثَفُ الْحُجُبِ. وَقَلْبُهُ أَقْسَى الْقُلُوبِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ مُنْكِرٌ لِخُلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ الْخُلَّةَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ يَتَأَوَّلُ الْخَلِيلَ بِالْمُحْتَاجِ. فَخَلِيلُ اللَّهِ عِنْدَهُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. فَكَمْ- عَلَى قَوْلِهِ- لِلَّهِ مِنْ خَلِيلٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، بَلْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ مَنْ يُنْزِلُ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا بِاللَّهِ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا. وَيَرَى نَفْسَهُ أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ.
فَلَا بِالْخُلَّةِ أَقَرَّ الْمُنْكِرُونَ، وَلَا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلَا بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا بِحَقَائِقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلِهَذَا ضَحَّى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمُقَدَّمِ هَؤُلَاءِ وَشَيْخِهِمْ جَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ، عَقِيبَ خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَشَكَرَ الْمُسْلِمُونَ سَعْيَهُ. وَرَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.